جائحة كورونا درس للتاريخ.. من صندوق المكافحة والتضامن … إلى إقرار الضريبة على الثروة( مقالة رأي)

    جمال كريمي بنشقرون

حقا إنها أزمة اجتماعية واقتصادية عالمية غير مسبوقة، قوامها  فرض تدابير احتياط وحذر متعددة، خوفا من تمدد جائحة عالمية لفيروس “كورونا المستجد” الذي لا يرى بالعين المجردة، لتقوم بذلك حرب ضد عدو خفي قهر كبار الدول باقتصاداتها الهائلة، فرض على الجميع الاختباء منه، وتفادي لقاء غير مرحب به معه، بل أزم العلاقات الاجتماعية وفرض تباعدا بين الافراد والجماعات، فبموجب حضوره المرعب أغلت المدارس والمساجد، المقاهي و المطاعم والمسارح ودور السينما والملاهي وغيرها…أغلقت أيضا المصانع والمعامل إلا لماما لمن استمرار حركته يشكل ضرورة أساسية لتامين الغداء و بعض الحاجيات الضرورية.

فبات إذن فيروسا بيولوجيا غير معروف المصدر حتى الان،  قهر مختلف الحكومات والانظمة وسبب ركودا اقتصاديا واثارا اجتماعية صعبة جراء إعلان حالة الطوارئ الصحية، التي جعلت أكثر من 60 بالمائة من ساكنة العالم حبيسة البيوت باختلاف أنواعها و اشكالها…، كما تختلف الفنادق بنجومها، فهناك المجال الفسيح والجميل للبعض وهناك المجال الضيق الموبوء اصلا ، او المنعدم للبعض الاخر…، و ما أكثرهم في زمن ازمة المساكن و تضخم ساكنة المدن الكبرى والمتوسطة وضيق المساحات العمرانية و اتساع رقعة الفقر والحرمان، مقدما هذا الفيروس بذلك نفسه و اسمه، عنوانا بارزا اليوم  للعالم ملقنا له دورسا للتاريخ المعاصر، إذ انه و في تقييم أولي ظاهري برزت للوجود أزمات اجتماعية واقتصادية جديدة  تولدت عن هذه الازمة الصحية المفاجئة.

وهي الازمة التي جعلت نساء و رجال الصحة والأمن و التعليم في الواجهة، جنودا محاربين لهذا العدو الغير الطبيعي، وهنا برزت الحاجة إلى توفر مكانيزمات سير منظومة صحية قوية ومؤهلة، بل وبالأساس، تظل الحاجة ثابتة إلى بناء نظام تعليمي قوي، حي، منتج ، مبدع ومبتكر، علاقة بأمن وأمان يتوقف عليهما استقرار النظام السياسي للدولة ومؤسساتها، لتكون المعركة القائمة اليوم ليست بسلاح الطائرات الحربية والصواريخ والقنابل بل بسلاح العلم بإيجابياته وسلبياته، و القدرة البشرية على العطاء والصبر والتحدي في مجتمعات لا بذ أن تنعم بحس انساني وطيد ووطنية صادقة وتضامن اجتماعي كبير.

هكذا انطلقت بلادنا مند الوهلة الأولى متخذة عدة اجراءات استباقية وطنية قوية للحد من امتداد هذا الوباء وانتشاره، فكان اول القرارات الصائبة والراجحة هو إحداث صندوق حساب خصوصي للخزينة لمكافحة فيروس كورونا ( كوفيد 19) بقرار حكيم لصاحب الجلالة “رئيس الدولة المغربية” الملك محمد السادس، و بجرأة وتجاوب سريع للحكومة والبرلمان وباقي المؤسسات الدستورية، فكانت التبرعات و المساهمات سخية، عبر من خلالها جميع المواطنين والمواطنات أفرادا وجماعات وأرباب شركات، والفاعلين من كل المؤسسات و الهيئات الوطنية المدنية والعسكرية عن الحب الكبير لهذا الوطن و الاستعداد للتضحية من أجله بالغالي والنفيس.

لتشكل هذه الظرفية الصعبة فرصة  للتفكير الجماعي في ظل وضع مؤلم، له أثار سلبية عديدة على كل المستويات والأصعدة، لتتغير كل المعادلات في ظل هذه الازمة وما بعدها، مما أبرز وبكل تجرد وبإيمان كبير أن تقوية المنظومة الصحية وتعزيز مواردها البشرية والمالية يعتبر ضروي بل وأساسي لكل الأنظمة في عالمنا اليوم، وبالتوازي هناك أيضا منظومة التربية والتعليم والتكوين التي تعد أرضية انتاج الأطر البشرية المؤهلة، بل وهي المسؤولة عن تعزيز وتمتين حقول البحت العلمي والمعرفة و التطور والتطوير في كل المجالات،

فالواقع يبين اننا في وضع صعب بالنظر إلى حالة القطاعين المذكورين و ميزانيتهما في الموازنة العامة للدولة، من خلال القانون المالي الذي تسعى الحكومة لتطويره سنة بعد أخرى تماشيا مع المتطلبات المتجددة، دون أن يحدث ذلك التطوير امام تعدد الاكراهات الاقتصادية المعلن عنها كحاجز، وامام الحرص الدائم على التوازنات الماكرو اقتصادية للأسف الشديد، مقيدين ومكبلين انفسنا للأمر الواقع الذي يفرض عدم ارتقاء ميزانيتي الصحة والتعليم لمستوى التطلعات وحجمها، حتى نرفع التحدي و بلوغ التنمية المنشودة.

إنه الاعتبار الأزلي الذي بنيت عليه صورة نمطية صعبة الفهم عن قطاعين اعتبرا غير منتجين، وهي النظرة المتجهة صوبهما كقطاعين يستهلكان موارد الدولة فقط !، وعلى الحكومة أن تقتصد ما أمكنها وتفتح الباب مشرعا امام القطاع الخاص، مقدمة شبه استقالة من تدبير قطاعين حيويين بالغي الاهمية، استجابة للبنك الدولي واملاءاته التقشفية التي فرضت على الدول السائرة في طريق النمو اقتصاديا و اجتماعيا و العاجزة ماليا، مند اكثر من 40 سنة قيودا للدين الخارجي، أدت إلى النتائج التي نعيشها اليوم للأسف الشديد.

وعليه، ظل مسار قطار التنمية حبيس محطة الانطلاقة في عدة مجالات بل و يسير ببطئ شديد محاطا بكوابح متعددة و أعطاب مختلفة، تتمثل في تراجع  المنظومة التعليمة العمومية على كافة المستويات، التي افرزت نظاما تعليميا طبقيا لا يضمن المساواة وتكافؤ الفرص،  و كذا عجر بين للمنظومة الصحية، التي أضحت هشة عاجزة على تامين العلاج لجميع المواطنين والمواطنات بشكل عادل ومتساو، في ظل تشجيع القطاع الخاص الذي تغول وشكل لوبيا يمتص جيوب المضطرين كرها لاختياره، فاصبحنا نعيش في كنف واقع مرير بتمثلاته وقيمه، محكم بكوابح تنموية لن تنفك ونحن عاجزين عن الخروج من بوتقة اقتصاد معولم  يسهم في تخلفنا اكثر من تقدمنا كمستهلكين لا منتجين.

والرسالة اليوم واضحة، أننا أمام خيار أوحد لنمو طبيعي لهذين القطاعين الحيويين، ألا وهو خلق شراكة قوية بين القطاعين العام والخاص، عمقها اجتماعي نبيل و هدفها تنموي اقتصادي، يؤمن الفرص و يساويها بين كل أفراد وفئات المجتمع دون تمييز و تفاوت، كما ينص على ذلك دستور المملكة المغربية، ولا بد أيضا من تقوية ميزانيتهما بما يجعلهما أولى الأوليات، ومنه إلى رفع ميزانية الصحة من 5.4 إلى 10 بالمائة من الناتج الداخلي الخام كما توصي بذلك منظمة الصحة العالمية، و رفع عدد الأطر الطبية باختلاف تخصصاتها إلى جانب تطوير البحث العلمي الطبي و التصنيع والابتكار في مجالي المعدات الطبية والأدوية.

أما بخصوص منظومة التربية والتعليم فذلك أمر اكثر أهمية مما سبق، حيت أن الأساس التنموي يعتمد على مدخلات ومخرجات منظومة التربية والتعليم والتكوين، وأن المثال الحي الذي علينا بلوغه هو “العقل السليم في الجسم السليم ” التقاء شاملا بين تامين صحة الجسد و صناعة العقل البشري، لكل من جهته واختصاصه في ورش تكاملي بين الصحة والتعليم، ويظل التعليم الجيد سببا في الارتقاء الاجتماعي عبر ضرورة تكافؤ الفرص وتوازن ضروري بين القطاعين العام والخاص، وإلى إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية بالدرجة الأولى، وبلوغ التلاقح الثقافي و التمازج الاجتماعي والطبقي، كما كان عليه الوضع قبل عقود، ليكون الولوج ميسرا للجميع، قادرين على الانخراط المعنوي والمادي، ليظل العنصر البشري ذا أهمية قصوى في هذه المعادلة، إذ أن بناء النموذج التنموي الجديد لن يتأتى إلا بسواعد وعقول بشرية مشجعه و محفزة، متمتعة بالثقة و متوفرة على الإمكانيات اللازمة للعمل والعطاء، مسلحة بحب الوطن والتفاني في خدمته بكل جد واجتهاد ونكران ذات.

لهذا ولأجل ذلك وبحكم الواقع الحالي، وعلى قاعدة التضامن الاجتماعي العميق لعيش الجميع في الوطن الرحب والمرحب بكل مواطنيه ومواطناته بكل فئاتهم الاجتماعية أغنياء وفقراء، كل يجتهد لنصرة الوطن من موقعه وتصنيفه ، وكل يؤمن بان حقه من خيرات هذا الوطن مكفول، و أن الجميع يستحق العيش الكريم و الامن، والأمان و الاستقرار، ولهذا اكرم الله بعض عباده بالثروة و جعلهم اغنياء عبر تقسيم الرزق و توزيعه، و جعل الله أيضا في الأرض أناسا فقراء في حاجة الى الدعم، وذلك عبرة  ذات دلالات من أجل إسهام الأغنياء لعيش الفقراء، بل من اجل استقرار وامن الوطن المحتضن، ففرض الله الزكاة على عباده، ملزمون بها كأحد اركان الإسلام من جهة، وألزم النظام الاقتصادي الوضعي كل المواطنين والمواطنات بأداء الضرائب باختلاف اشكالها، و باختلاف الفئات الاجتماعية والاقتصادية من جهة اخرى، لتشكل الضرائب أهم مورد مالي للدولة، مما يعيد فتح النقاش وبالضرورة بعد خروجنا سالمين وانتصارنا على هذا الوباء اللعين، بشان اصلاح النظام الضريبي، و إقرار العدالة الضريبية بجدية هذه المرة، دون ضغط من أية جهة أو تهديد من جهات أخرى، بعيد عن كل المزايدات والحسابات الضيقة.

والقصد هنا أن تلعب الحكومة دورها والبرلمان أيضا في حسم الامر، و أن يكون الاستعداد و الالتزام قاعدة أساسية لإنجاح كل القرارات القانونية، و الأمل المنشود اليوم بعد ما عشناه من تضامن منقطع النظير، وسخاء كبير بحسن وطني غالي أملته هذه الظرفية الاستثنائية التي تعيشها بلادنا، ودفعت إليه جائحة كرونا، التي من حسانتها ان قربت الغني من الفقير أكثر، و أعطت الدروس بان المال قد لا تفيد في شيء في أوقات الازمات الصعبة…، و أن العيش الامن لابد له من تضحيات معنوية ومادية، وان الرفاه و البحبوحة لابد ان يؤذى عليهما، تفاديا لنشؤء حقد الاجتماعي  ناقم، من جراء بناء طبقي هرمي غير متوازن، وذلك تامينا للعيش الجماعي و دون حدوث الأسوء، تفاديا ل ” ثورة الرعاع والدهماء” المنبثقة إبان الازمات والكوارث والاوقات العصيبة، ليرسخ لدينا جميعا اليوم الايمان بانه لابد من التصدي لأي توجه ليبرالي “متوحش” قاتل للإنسان والإنسانية.

وعليه، ألا يعتبر صندوق مجابهة و مكافحة كورنا الذي اقره ملك البلاد بنظرة ثاقبة لمعالجة وضع صعب، حيث تتحكم اليوم في بنيان الدولة ازمة صاخبة، ادت إلى انخراط  قوي لجميع فئات المجتمع مسهمة في تمويله، الا يعتبر، هذا الأمر فرصة سانحة لتثبيت الأمر قانونيا ، وترسيم هذا الصندوق الاجتماعي مستقبلا بأهداف أخرى، و جعل المورد الاساسي له هو إقرار و فرض الضريبة على الثروة، إيمانا بان الغني معني بها اليوم، و أن فقير اليوم معني هو الاخر لما تتيسر أحواله المادية، من خلال دوران معادلة الانتاج وتوزيع ثمار التنمية، عبر مدرج الارتقاء الاجتماعي، ليكون بذلك الجميع متساويا، في أداء هذه الضريبة، في إطار عجلة دوران الحياة،  فكم من غني أصبح فقيرا، و كم من فقير اصبح غنيا، ومنه سيكون هذا الصندوق حيا بمورده هذا، حتى يستغل جيدا في تقوية المنظومة الصحية و منظومة التربية والتعليم، حيت عبرهما فقط نتخطى الكوابح و نرتقي في سلم التنمية البشرية، ونتميز كدولة راعية متمكنة من اقتصادها ومن ثرواتها، مستغلة جيدا لخزانها البشري الشاب الذي تحسد عليه.

فهذا هو المغرب، الوطن الحر القوي، الذي نطمح إليه والذي نرجو بناءه من خلال تكريس الخيار الديمقراطي، و التوزيع العادل للخيرات و تثبيت مبادئ العدالة الاجتماعية، مغرب قادر على الانتصار ضد أي خطر داهم كيفا كان شكله ونوعه، داخلي كان او خارجي، بعزيمة وإرادة الرجال والنساء والشباب، في رفع تحدي التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي عبر الإنتاج المحلي و الاستهلاك الداخلي باكتفاء ذاتي،  بقوة وفعالية مختلف المؤسسات والهيئات الوطنية، انتاجا للقرارات الصارمة والحكيمة و القدرة على تنفيذها و تيسير قبولها و الالتزام بها شعبيا بوطنية صادقة و اعتزاز وافتخار بالانتماء و العيش المشترك.

– جمال كريمي بنشقرون


شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...